ما أبرع دوستويفسكي بالغوص في أغوار النفس البشرية، ونبش تناقضاتها، وكشف غوامضها، لكأنّ المرء وهو يقرؤه يعوم في محيط لا يُتوقع لها نهاية ولا عمق. فإذا اما أبرع دوستويفسكي بالغوص في أغوار النفس البشرية، ونبش تناقضاتها، وكشف غوامضها، لكأنّ المرء وهو يقرؤه يعوم في محيط لا يُتوقع لها نهاية ولا عمق. فإذا الشخصيات، تتقاطع مصائرها وتتفرق، وتتشابك لتتفرق من جديد، وبسلاسة الماء تكشف عن نوازعها ومخاوفها وآثامها وطيبتها، تُمعن في تعرية دواخلها وإذلال نفسها وإهانتها، فيرى القارئ نفسه إزاء شخوص يستغربها ويتعاطف معها، يُكبر عواطفها واعترافاتها ويزدري ضعفها وخطاياها. ولا مبالغة في تصويره شخصياته بتلك الطريقة المتضاربة وغير المتوقعة، فالإنسان كذلك لجّة من المتناقضات وهو بحد ذاته مجموعة من الشخصيات لا شخصية واحدة، وليس الصورة الموحدة التي يصورها ويصدّرها للناس عامدا أم غير متعمد.. يصور دوستويفسكي كل ذلك في قصة حب غريبة عجيبة يتداور أطرافها أربعة أشخاص، بعضهم يحب لأجل الحب وحده كحب فانيا لناتاشا وحب ناتاشا لأليوشا. والبعض يحب ويستميت حبا في شخصين كلٌّ لسبب ودوافع مختلفة كحب أليوشا لناتاشا وكاترينا. يخيل للمرء أن مشاعر الأمير الغرّ الطائش أليوشا تتلاعب به يد أعلى وهي يد أبيه الأمير المتسلط مَن لا دوافع له سوى المال ثم المال. إلا أنها شخصيات دوستويفسكي هي التي تطرح على الورق اتجاهاتها المتباينة فيذهل القارئ مرة بعد أخرى لدى قراءته أعمال دوستويفسكي. وبعيدا عن التحليل النفسي، تصور الرواية هيمنة أصحاب المال، وقدرتهم لا بل جرأتهم وتجرأهم على الإمعان في التحكم بمصائر من هم أدنى منهم اجتماعيا. قد يكون أبلغ مثال على ذلك بعد التحكم بمصير ناتاشا وأليوشا، لأجل المال وحده، إبراز الطفلة نيللي "هيلين" وأمها من قبل، وتصويرهما ضحية لمجتمع مادي قاس يولي المادة قدرا أكثر مما يوليه للإنسان. ومما ورد في الرواية: "إن الفقر ليس خطيئة ولكن الخطيئة أن يكون المرء غنيًّا فيهين الآخرين". هل المال حقا هو من يمنحك الحق في إذلال الغير وإهانته؟ بالاستخفاف بمشاعره وعذاباته؟ أن تشتري الغير وتبيعهم على هواك لأنك تملك أثمانهم؟
* "لا بد أن نتألم حتى النهاية في سبيل سعادتنا المقبلة،يجب أن نشتريها بآلام جديدة. إن الألم يطهر كل شيء.. آه يا فانيا، ما أكثر ما نتألم في هذا الوجود".
إنها الرواية التي تأجلت قراءتها طويلا لكنها كانت جديرة بالتذكر والعودة إليها..
لا أتوقع أنني سأضيف شيئا إلى الشرح التعريفي المرافق للكتاب، أو للقراءات السابقة التي قدمها الأصدقاء القراء.. هو باختصار كتاب غني، ويُنصح به بجدارة، وللا أتوقع أنني سأضيف شيئا إلى الشرح التعريفي المرافق للكتاب، أو للقراءات السابقة التي قدمها الأصدقاء القراء.. هو باختصار كتاب غني، ويُنصح به بجدارة، ولفتتني جدا المقتطفات والشواهد. مع الأخذ بعين الاعتبار أنه استهل كتابه بالقول بأنه عالج موضوعات الكتاب من وجهة نظر الأديب لا الفيلسوف ولا المحلل السياسي.. العنف، هذه المادة المتجذرة في مجتمعاتنا، الشهوة المستعرة لممارسة العنف، بوجود أسباب مسوغة أو بعدمها.. كيف يُخلق الطاغية، ورغبته الأبدية في التسلط والبطش وحتى في ارتداء لبوس القداسة والتشبه بالآلهة، وما يدور في كواليس هذه المسرحية النتنة، والعوامل والمخلوقات التي تسهم في إنماء هذه المسوخ والتي تسندها انطلاقا من مصالح شخصية أو خنوع مطلق.. وتجبّر البشر على البشر.. والعودة إلى جوهر الإنسان في البدء، والصراع الأزلي بين الإنسان والوحش الكامن في الأعماق.. والديكتاتور ليس من نراه في الخارج فقط حرّا طليقا، ثمة ديكتاتور في الداخل، ذاك الذي ربّاه القمع في نفوس المقموعين.. ونحن رغم كل ما نعايشه وما يعتمل في دواخلنا نسعى أبدا لإيجاد قيمة للأشياء، لا نكتفي بأن نحيا وحسب.. ونحن إذاك نحاول منح الحياة مسماها الحقيقي، ونهرب من الوحش المختبئ في دواخلنا ونعمل على تهذيبه.. ومن أجل ذلك وجدت القوانين والأخلاق والفلسفات والأديان والفنون.. والحديث يطول.....more